اقترن الحديث عن الأنثروبولوجيا والتراث الشعبي في الجزائر في بداية الاستقلال، وبصورة رهيبة، بأسئلة جريحة وصعبة وخطيرة، كادت أن تعصف بالكيان العلمي والمعرفي للأنثروبولوجيا نفسها كعلم أصيل وعريق، وبالتراث الشعبي الذي ظل موضوع مراهنات غير مسؤولة وغير علمية ظلت تلاحقه مدة من الزمن... فإن نحن سمحنا لأنفسنا بالاختصار نقول إن الأنثروبولوجيا قد ارتبطت في المخيال المعرفي الرسمي الجزائري ما بعد الاستقلال بأنها علم استعماري بامتياز، سخّرته المنظومة الكولونيالية الفرنسية منذ أول عهدها بالجزائر، وما قبل هذه المرحلة بقليل، من أجل استعمار البلاد حيث دفعت لهذه المهمة بعدد من الإداريين ورجال الدين ورجال الجيش، وكذا بعض الانثروبولوجيين والاثنولوجيين والاثنوغرافيين، من أجل دراسة المجتمع الجزائري وثقافته وعاداته ومعتقداته وفنونه وأشكاله التعبيرية وأعرافه.. وتقديم كل هذه المادة للإدارة لاستغلالها واستثمارها من أجل معرفة الشعب الجزائري والتحضير لاستراتيجية استعمارية تتماشى وأنماط تفكيره. لقد شكلت الجزائر، مجتمعاً وثقافة، موضوعاً خصباً لهذه الدراسات الانثروبولوجية التي اتجهت في معظمها اتجاهاً استعمارياً.
علمٌ استعماري؟
ومن هذا المنطلق، رسخ في ذهن أصحاب القرار السياسي بعد مرحلة الاستقلال، عدم تدريس الانثروبولوجيا في الجامعات الجزائرية باعتبارها "علماً استعمارياً" وأن الانثروبولوجيين الفرنسيين الذين صاحبوا الحملة الاستعمارية ساهموا بدراساتهم للمجتمع والثقافة الجزائريين في عملية الاستعمار وسهّلوها. قررت الحكومة الجزائرية عدم تدريس الأنثروبولوجيا إذاً، وعدم الاعتراف بها والعمل على إقصائها من دائرة المعارف الاجتماعية والإنسانية. بل وصل الأمر إلى نعت كل باحث مهتم بهذا العلم بأنه من أتباع الايديولوجيا الكولونيالية. واستمر هذا الوضع مدة من الزمن واستمر معه نضال بعض الباحثين المهتمين بالانثروبولوجيا، إلى غاية الثمانينيات، مع ما بدأ يعرفه المجتمع الجزائري من حراك سياسي وثقافي جديد، فشهدت هذه المرحلة عودة الأنثروبولوجيا إلى الواجهة بطريقة خجولة. ولكن إصرار الباحثين أعطى لهذا العلم المكانة الأساسية واللائقة به، ليعود كفرع معرفي قائم بذاته حيث أُدرج في بعض الجامعات كتخصص أساسي، مثل جامعة تلمسان، حيث فُتح لأول مرة في تاريخ الجزائر معهد وطني يتكفل بدراسة التراث الشعبي وتدريس الأنثروبولوجيا، هو "المعهد الوطني للتعليم العالي للثقافة الشعبية" وكان ذلك في العام 1984. كما عرفت بعض المراكز البحثية نشاطا انثروبولوجيا مميزا، مثل "المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية" بوهران، و "المركز الوطني للبحث في ما قبل التاريخ والأنثروبولوجيا" بالجزائر. ومهما يكن من أمر المعارك أو الاتهامات، عادت الأنثروبولوجيا وعاد معها التكوين الأصيل للباحثين الذين تكفلوا بموضوع الثقافة والمجتمع الجزائريين والإنسان الجزائري وثقافته المادية والمعنوية والسلوكية. كما عاد أصحاب القرار الى الوعي المعرفي والسياسي بأن الأنثروبولوجيا كاختصاص معرفي، يساهم في التنمية وفي المعرفة، وفي تكفل الإنسان الجزائري بعدد من قضاياه الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقائدية.
تعريفات
الأنثروبولوجيا ليست علماً استعمارياً، كلها ودوماً وأبداً. فهي تدرس الإنسان كيفما كان وأينما وجد. اهتمت بالإنسان الجزائري كما بالإنسان الفرنسي والأميركي والاسترالي والمغربي والانكليزي... موضوعها الإنسان وقضاياه المعاشية. كما أنها لم تبق حبيسة تلك الرؤية الضيقة التي حاولت أن تحاصرها وتسجنها حين جعلت منها علماً خاصاً بالمجتمعات البدائية والمتخلفة والمتوحشة. تحررت من هذه الرؤية واتسع مجال نشاطها لتشمل مجتمعات أكثر تقدماً ورقياً وحضارة. يملك الانثروبولوجي من المؤهلات المعرفية والمنهجية والتقنية ما يسمح له بالتعامل مع موضوعه عن قرب ومن الداخل ومن الأعماق، وإبراز المخفي والمسكوت عنه. وهذا ما قد يساهم في التنمية وفي البناء الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي والعقائدي بصورة مهمة وصادقة وذات حس واقعي.
و في الاتجاه نفسه، ظل "التراث الشعبي" موضوع مراهنات لا تقل أهمية عن موضوع الأنثروبولوجيا. لقد عرف الاثنان المصير نفسه وخضعا لمسيرة تكاد تكون واحدة من حيث الرفض والإقصاء والاتهامات والنعوت السلبية. إن مسيرة موضوع التراث الشعبي أو ما يعرف تارة بالثقافة الشعبية، وتارة أخرى بالثقافة الشفوية، أو الفلكلور، أو التراث المادي أو اللامادي، أو الثقافة التقليدية، وأيضا بالمأثورات الشعبية الخ.. وكلها مصطلحات تم تداولها.
التراث الشعبي الجزائري يغطي مساحة معرفية وموضوعاتية كبيرة تقاسمتها مجموعات من الأشكال يصنفها المهتمون ضمن خانات العادات والتقاليد والمعتقدات والخرافات والفنون والحرف التقليدية وأشكال التعبير الأدبي الشعبي. وعلى الرغم مما تزخر به الثقافة الجزائرية من تراث شعبي أصيل ومن غزارة المادة وتنوعها، وقوة الإبداع وعراقة التراث وامتداده التاريخي، فقد ظل موضوع رفض وإقصاء من الدائرة التعليمية ولم يهتم به كثيراً في بداية استقلال الجزائر حيث ظل ينعت نعوتاً خطيرة وخاطئة وخالية من الوعي والمسؤولية، فوُصف بالضعف والسذاجة وقيل فيه إنه غير جدير بالاهتمام والدراسة وفاقد للفكر العلمي. كما حُمِّل مواقف خاطئة إذ نصب خطأً وبهتاناً في الطرف المعادي والمعاكس للوطنية والعروبة والإسلام واللغة العربية، وانه ضد الوحدة الوطنية، ويدعو إلى الجهوية وإلى الثقافات المحلية وإحياء النعرات الاثنية والثقافية. كما وصف بالموضوع الاستعماري بامتياز، وان المنظومة الكولونيالية اهتمت به وروّجت له من أجل التصدي للغة العربية ولثقافتها الرسمية الوطنية... لاعتقاد هؤلاء أن التراث الشعبي قد يشكل مادة خام لإحياء اللهجات المحلية. بينما خاض المهتمون بالتراث الشعبي نضالاً ومعارك من أجل إثبات أنه جزء لا يتجزأ من تراث هذه الأمة ومن ثقافتها وهويتها وتاريخها... وعاد التراث الشعبي وعادت معه عملية الإحياء والعناية والاهتمام به كمادة للبحث والدراسة والتدريس، فتم إدراجه ضمن البرامج التعليمية، وخاصة على مستوى التعليم العالي. ونال في هذا الصدد الأدب الشعبي حصة الأسد، إذ أُدرج كمادة أساسية لطلبة الليسانس لغة وأدب عربي، بالإضافة إلى مادة الفنون الشعبية بالنسبة لطلبة الفنون والمسرح. كما أدرجت اللهجات المحلية كمادة أساسية في العديد من التخصصات اللسانية. وخصّته الدولة بميزانيات مالية معتبرة وبرامج خاصة للجمع والتدوين والصيانة والنشر. وظهرت إلى الوجود جمعيات ثقافية وفكرية وفنية راهنت على التراث الشعبي واشتغلت عليه، وقدمت الندوات والملتقيات والمسابقات والمعارض والاحتفالات من أجل التعريف به وحمايته ومقاومة النسيان وطبعه في كتب ومجلات ونشرها بين الناس...
مجرد مادة للمتاحف؟
وهكذا صار الحديث عن الأنثروبولوجيا أو التراث الشعبي ضرورة وطنية ملحة في خضم الصراعات الثقافية والحضارية التي تعيشها الشعوب والمجتمعات. فالتراث الشعبي وما يزخر به من قيم قد يشكل القيمة الثابتة والسلاح القوي من أجل الدفاع عن هوية الشعب وثقافته وحضارته في مواجهة ثقافة العولمة التي تريد تعرية الشعوب والقضاء على هوية انتمائها. لقد فتح هذا العهد الجديد المجال واسعاً لإعادة النظر في الكثير من القضايا الفكرية وحتى السياسية.. اهتم به الانثروبولوجيون الجزائريون، وخاصة الشباب الأكاديمي، حيث اكتشفوا فيه مادة خصبة لإبراز ثقافة الشعب الجزائري ماضياً وحاضراً، فحرروا التراث الشعبي من تلك الأوصاف، كما حرروه من تلك العملية التحنيطية التي أرادها له البعض حين جعلوا منه مادة خاماً للمتاحف، تُعرض للسياح الأجانب، وكأن ثقافة الشعب لا قيمة لها، فهي إما ميتة أو هي غنية من حيث العنصر العجيب والغريب والسحر والفرجة.. حررت الانثروبولوجيا البحث في مادة التراث الشعبي وارتقت به إلى المستوى العلمي الرفيع الذي يتناسب وقيمته. فالتراث الشعبي هو كيان الشعب وشخصيته وهويته وتاريخه. وهو يصونه..
[ينشر ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية" و"السفير العربي"]